فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (34):

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات} كلامٌ مستأنف جيءَ به في تضاعيف ما وردَ من الآيات السَّابقةِ واللاَّحقةِ لبيان جلالةِ شؤونها المستوجبةِ للإقبال الكليِّ على العمليِّ بمضمونِها وصُدِّر بالقسم الذي تُعرب عنه اللاَّمُ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأنهِ أي وباللَّهِ لقد أنزلنا إليكم في هذه السورةِ الكريمة آياتٍ مبيِّناتٍ لكلِّ ما بكم حاجةٌ إلى بيانه من الحدود وسائرِ الأحكام والآدابِ وغير ذلك ممَّا هو من مَبادي بيانِها على أنَّ إسنادَ التبيينِ إليها مجازيٌّ. أو آياتٍ واضحاتٍ تصدِّقها الكتبُ القديمةُ والعقولُ السَّليمةُ على أنَّ مبيِّنات من بيَّن بمعنى تبيَّن ومنه المثلُ: قد بَيَّن الصّبحُ لذي عينينِ.
وقرئ على صيغةِ المفعولِ أي التي بُيِّنتْ وأوضحتْ في هذه السورةِ من معاني الأحكامِ والحدودِ وقد جُوِّز أن يكونَ الأصلُ مبيَّناً فيها الأحكامُ فاتّسع في الظَّرف بإجرائه مُجرى المفعولِ {وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} عطفٌ على آياتٍ أي وأنزلنا مثلاً كائناً من قبيل أمثالِ الذين مضوا من قبلِكم من القصصِ العجيبةِ والأمثالِ المضروبة لهم في الكتب السَّابقةِ والكلماتِ الجاريةِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السَّلامُ فينتظمُ قصَّة عائشة رضي الله عنها المحاكية لقصَّةِ يوسفَ عليه السَّلامُ وقصَّةِ مريمَ رضي الله عنها وسائرِ الأمثالِ الواردةِ في السُّورةِ الكريمةِ انتظاماً واضحاً. وتخصيصُ الآياتِ المبيِّناتِ بالسوابقِ وحملُ المثلِ على القصَّة العجيبةِ فَقَط يأباهُ تعيبُ الكلامِ بما سيأتِي من التمثيلاتِ {وَمَوْعِظَةً} تتَّعظِون به وتنزجِرُون عمَّا لا ينبغي من المحرَّمات والمكروهاتِ وسائرِ ما يخلُّ بمحاسنِ الآدابِ فهي عبارةٌ عمَّا سبقَ من الآيات والمثل لظهورِ كونها من المواعظ بالمعنى المذكور. ومدارُ العطف هو التَّغايرُ العنوانيُّ المنزَّلُ منزلة التَّغايرِ الذَّاتيِّ وقد خُصَّت الآياتُ بما يبيِّنُ الحدودَ والأحكامَ والموعظةَ بما وُعظ به من قولهِ تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} وقوله تعالى: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وغيرِ ذلك من الآياتِ الواردةِ في شأنِ الآدابِ وإنَّما قيل {لّلْمُتَّقِينَ} مع شمولِ الموعظةِ للكلِّ حسب شمول الإنزال لقوله تعالى: {أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} حثًّا للمُخاطَبين على الاعتناء بالانتظام في سلك المتَّقين ببيان أنَّهم المغتنمون لآثارها المُقتبسون من أنوارها فحسب. وقيل المرادُ بالآيات المبيناتِ والمثلِ والموعظةِ جميعُ ما في القُرآنِ المجيدِ من الآياتِ والأمثالِ والمواعظِ.

.تفسير الآية رقم (35):

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
فقولُه تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} إلخ حينئذٍ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فيها من البيانِ مع الإشعارِ بكونه في غاية الكمالِ على الوجه الذي ستعرفُه، وأمَّا على الأوَّلِ فلتحقيقِ أنَّ بيانه تعالى ليس مقصُوراً على ما وردَ في السُّورة الكريمة بل هو شاملٌ لكلِّ ما يحقُّ بيانُه من الأحكام والشَّرائعِ ومباديها وغاياتها المترتِّبة عليها في الدُّنيا والآخرة وغير ذلك ممَّا له مدخلٌ في البيان وأنَّه واقعٌ منه تعالى على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها حيث عبَّر عنه بالتَّنوير الذي هو أقوى مراتب البيانِ وأجلاها وعبَّر عن المنوِّر بنفس النُّور تنبيهاً على قوَّةِ التَّنوير وشدَّةِ التَّأثيرِ وإيذاناً بأنه تعالى ظاهرٌ بذاته، وكلُّ ما سواه ظاهرٌ بإظهاره، كما أنَّ النُّور نيِّرٌ بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النُّور إلى السَّمواتِ والأرضِ للدِّلالةِ على كمال شيوع البيان المُستعار له وغاية شمولهِ لكلِّ ما يليق به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد النَّاسِ بوساطة بيان شمول المُستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقُّه من الأجرام العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ فإنَّهما قُطرانِ للعالم الجسمانيِّ الذي لا مظهر للنُّور الحسيِّ سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجُودات، إذ ما من موجودٍ إلا وقد بُيِّن من أحواله ما يستحقُّ البيانَ إمَّا تفصيلاً أو إجمالاً، كيف لا ولا ريبَ في بيان كونهِ دليلاً على وجود الصَّانعِ وصفاته وشاهداً بصحَّة البعثِ أو على تعلُّق البيان بأهلهما كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: هادي أهلِ السَّمواتِ والأرضِ فهم بنوره يهتدون وبهداه من حَيرة الضَّلالةِ ينجُون، هذا وأما حملُ التَّنوير على إخراجهِ تعالى للماهيَّاتِ من العدمِ إلى الوجود إذ هو الأصلُ في الإظهار كما أنَّ الإعدامَ هو الأصلُ في الإخفاء أو على تزيينِ السموات بالنيِّرينِ وسائر الكواكب وما يفيضُ عنها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السَّلامُ وتزيين الأرض بالأنبياءِ عليهم السَّلامُ والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجارِ أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائمُ المقامَ ولا يساعدهُ حسنُ النِّظامِ.
{مَثَلُ نُورِهِ} أي نورهِ الفائض منه تعالى على الأشياء المُستنيرة به وهو القرآنُ المبينُ كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتَّبيينِ وقد صرّح بكونهِ نوراً أيضاً في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} وبه قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهُما والحسنُ وزيدُ بنُ أسلم رحمهم الله تعالى، وجعلُه عبارةً عن الحقِّ وإن شاع استعارتُه كاستعارة الظُّلمة للباطل يأباه مقامُ بيان شأن الآياتِ ووصفِها بما ذُكر من التَّبيين مع عدم سبق ذكر الحقِّ ولأنَّ المعتبرَ في مفهوم النُّور هو الظُّهورُ والإظهار كما هو شأنُ القُرآن الكريم.
وأما الحقُّ فالمعتبر في مفهومِه من حيثُ هو حقٌّ هو الظُّهورُ لا الإظهارُ، والمراد بالمثل الصِّفةُ العجيبةُ أي صفة نوره العجيبة {كَمِشْكَاةٍ} أي صفة كُوَّة غير نافذةٍ في الجدار في الإنارة والتَّنويرِ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراجٌ ضخمٌ ثاقبٌ، وقيل المشكاةُ الأُنبوبةُ في وسطِ القنديلِ والمصباحُ الفتيلةُ المشتعلةُ {المصباح فِي زُجَاجَةٍ} أي قنديلٍ من الزُّجاجِ الصَّافي الأزهرِ. وقرئ بفتح الزَّاي وكسرِها في الموضعينِ {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ} متلألىءٌ وقَّادٌ شبيه بالدُّرِّ في صفائه وزُهرته. ودراري الكواكب عظامُها المشهورةُ. وقرئ: {دِرِّىء} بدالٍ مكسورةٍ وراءٍ مشدَّدةٍ وياءٍ ممدودةٍ بعدها همزةٌ، على أنَّه فِعيلٌ من الدَّرءِ وهو الدَّفعُ أي مبالغٌ في دفعِ الظَّلامِ بضوئهِ أو في دفعِ بعضِ أجزاءِ ضيائهِ لبعضٍ عندَ البريقِ واللَّمعانِ. وقرئ بضمِّ الدَّال، والباقي على حالهِ، وفي إعادةِ المصباحِ والزُّجاجةِ معروفينِ إثرَ سبقهما مُنكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقالَ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ في زجاجةٍ كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ من تفخيمِ شأنهما ورفعِ مكانهِما بالتَّفسيرِ إثرَ الإبهامِ والتَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ وإثباتِ ما بعدهما لهما بطريقِ الإخبارِ المنبىءِ عن القصثد الأصليِّ دونَ الوصفِ المبنيِّ على الإشارة إلى الثُّبوت في الجملةِ ما لا يخفى. ومحلُّ الجملةِ الأُولى الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لمصباحٌ، ومحلُّ الثَّانيةِ الجرُّ على أنَّها صفةٌ لزجاجةٍ واللاَّمُ مغنيةٌ عن الرَّابط كأنَّه قيل فيها مصباحٌ هو في زُجاجةٍ هي كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ.
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} أي يبتدأُ إيقادُ المصباحِ من شجرةٍ {مباركة} أي كثيرةِ المنافعِ بأنْ رُويت ذبالتُه بزيتها، وقيلَ إنَّما وُصفتْ بالبركةِ لأنَّها تنبتُ في الأرضِ التي باركَ اللَّهُ تعالى فيها للعالمينَ {زَيْتُونَةٍ} بدلٌ من شجرةٍ وفي إبهامِها ووصفِها بالبركةِ ثم الإبدالِ منها تفخيمٌ لشأنِها. وقرئ: {تُوقد} بالتَّاء على أنَّ الضَّميرَ القائمَ مقامَ الفاعل للزُّجاجة دون المصباحِ. وقرئ: {توقَّدَ} على صيغة الماضي من التَّفعُّلِ أي ابتداءُ ثقوب المصباح منها. وقرئ: {تَوقَّدُ} بحذف إحدى التَّاءين من تتوقدُ على إسناده إلى الزُّجاجةِ {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} تقعُ الشَّمسُ عليها حيناً دُونَ حينٍ بل بحيثُ تقعُ عليها طولَ النَّهار كالتي على قُلَّة أو صحراء واسعةٍ فتقع الشَّمسُ عليها حالتَيْ الطُّلوع والغروب وهذا قولُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وسعيد بن جُبير، وقتادة. وقال الفرَّاءُ والزَّجاجُ: لا شرقيَّة وحدها ولا غربيَّة وحدها لكنَّها شرقيَّةٌ وغربيَّةٌ أي تصيبها الشَّمسُ عند طلوعِها وعند غروبِها فتكون شرقيَّةً وغربيَّةً تأخذ حظَّها من الأمرينِ فيكون زيتُها أضوأ. وقيل لا نابتة في شرقِ المعمُورة ولا في غربِها بل في وسطِها وهو الشَّامُ فإن زيوتَها أجودُ ما يكون وقيل لا في مَضحى تشرقُ الشَّمسُ عليها دائماً فتحرِقُها ولا في مَقْنأةٍ تغيب عنها دائماً فتتركها نيِّئةً. وفي الحديث: «لا خيرَ في شجرةٍ ولا في نباتٍ في مَقْنأةٍ ولا خير فيهما في مَضْحى».
{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي هو في الصَّفاءِ والإنارةِ بحيثُ يكادُ يُضيءُ بنفسِه من غير مساسِ نارٍ أصلاً. وكلمة لو في أمثالِ هذه المواقع ليستْ لبيان انتفاء شيءٍ في الزَّمان الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يُلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه ملاحظةً قصديةً إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحقُّقِ ما يفيده الكلامُ السَّابقُ من الحكم الموجبِ أو المنفيِّ على كل حالٍ مفروض من الأحوال المُقارنة له إجمالاً بإدخالِها على أبعدها منه إما لوجودِ المانع كما في قولِه تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} وإما لعدم الشَّرط كما في هذه الآية الكريمة ليظهر بثبوتِه أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوالِ بطريق الأولويَّةِ لما أنَّ الشيءَ متى تحقَّقَ مع ما ينافيه من وجود المانعِ أو عدم الشَّرطِ فلأنْ يتحققَ بدون ذلك أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ آخرُ من سائر الأحوالِ ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدُّدِها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمال وهذا أمر مطَّرد في الخبر الموجب والمنفيِّ فإنَّك إذا قلتَ: فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنيًّا تريد بيان تحقُّقِ الإعطاء في الأوَّلِ وعدم تحقُّقِه في الثَّانِي في جميع الأحوال المفروضة والتَّقديرُ يُعطي لو لم يكن فقيراً، ولا يُعطي لو لم يكن غنيًّا فالجملة مع ما عُطفت هي عليه في حيِّزِ النَّصبِ على الحاليَّةِ من المستكِّنِ في الفعل الموجب أو المنفيِّ أي يُعطي أو لا يُعطي كائناً على جميعِ الأحوال. وتقديرُ الآية الكريمة يكادُ زيتُها يضيءُ لو مسَّته نارٌ ولو لم تمسسه نارٌ أي يضيءُ كائناً على كلِّ حال من وجود الشَّرطِ وعدمه وقد حُذفت الجملةُ الأولى حسبما هو المطَّردُ في الباب لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً {نُورٍ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ. وقولُه تعالى: {على نُورٍ} متعلِّق بمحذوفٍ هو صفة له مؤكِّدةٌ لما أفاده التَّنكيرُ من الفخامة. والجملة فَذْلكةٌ للتَّمثيل وتصريحٌ بما حصلَ منه وتمهيدٌ لما يعقبه أي ذلك النُّور الذي عُبِّر به من القرآن ومُثِّلتْ صفتُه العجيبةُ الشَّأنِ بما فُصِّل من صفة المشكاة نورٌ عظيمٌ كائن على نور كذلك لا على أنَّه عبارة عن نورٍ واحدٍ معيَّن، أو غير معيَّنٍ فوق نور آخرَ مثله ولا عن مجموع نورينِ اثنينِ فقط بل عن نورٍ مُتضاعفٍ من غير تحديد لتضاعفه بحدَ مُعيَّنٍ، وتحديدُ مراتبِ تضاعُف ما مُثِّل به من نورِ المشكاةِ بما ذُكر لكونِه أقصى مراتب تضاعفِه عادةً فإنَّ المصباحَ إذا كان في مكانٍ متضايق كالمشكاةِ كان أضوأَ له وأجمعَ لنورِه بسبب انضمامِ الشُّعاعِ المنعكس منه إلى أصلِ الشُّعاعِ بخلاف المكان المتَّسعِ فإنَّ الضَّوءَ ينبثُّ فيه وينتشرُ والقنديل أعونُ شيءٍ على زيادة الإنارةِ وكذلك الزَّيت وصفاؤه، وليس وراء هذه المراتبِ ممَّا يزيد نورَها إشراقاً ويمدُّه بإضاءةٍ مرتبةٌ أُخرى عادةً هذا وجعل النُّورِ عبارةً عن النُّورِ المشبه به مما لا يليق بشأن التَّنزيلِ الجليل {يَهْدِى الله لِنُورِهِ} أي يهدي هدايةً خاصَّةً موصِلةً إلى المطلوب حتماً لذلك النُّور المتضاعف العظيمِ الشَّأنِ.
وإظهارُه في مقام الإضمارِ لزيادة تقريرِه وتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بفخامتِه الإضافيةِ النَّاشئةِ من إضافتِه إلى ضميره عزَّ وجلَّ {مَن يَشَاء} هدايتَه من عباده بأنْ يوفِّقَهم لفهم ما فيه من دلائلِ حقيقتِه وكونه من عند الله تعالى من الإعجاز والإخبارِ عن الغيبِ وغير ذلك من مُوجباتِ الإيمانِ به وفيه إيذانٌ بأنَّ مناطَ هذه الهدايةِ ومِلاكَها ليس إلا مشيئتَه تعالى وأنَّ تظاهرَ الأسباب بدونها بمعزلٍ من الإفضاء إلى المطالب.
{وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} في تضاعيف الهداية حسبَما يقتضِي حالُهم فإنَّ له دخلاً عظيماً في باب الإرشاد لأنَّه إبرازٌ للمعقول في هيئة المحسوس وتصويرٌ لأوابدِ المعاني بصورة المأنُوسِ ولذلك مُثّل نورُه المعبَّر به عن القُرآن المُبين بنور المشكاة. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار للإيذانِ باختلاف حال ما أُسند إليه تعالى من الهدايةَ الخاصَّةَ وضربِ الأمثالِ الذي هو من قبيلِ الهداية العامَّةِ كما يُفصح عنه تعليقُ الأُولى بمن يشاءُ والثَّانيةِ بالنَّاس كافَّة {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو باطناً، ومن قضيَّتِه أنْ تتعلقَ مشيئتُه بهداية مَن يليق بها ويستحقُّها مِن النَّاسِ دُونَ مَن عداهم لمخالفتِه الحكمةَ التي عليها مبْنى التَّكوينِ والتَّشريعِ وأنْ تكونَ هدايتُه العامَّة على فنونٍ مختلفةٍ وطرائقَ شتَّى حسبما تقتضيهِ أحوالُهم. والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله، وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيد استقلالِ الجملة والإشعارِ بعلَّةِ الحكم وبما ذُكر من اختلافِ حال المحكومِ به ذاتاً وتعلُّقاً.

.تفسير الآية رقم (36):

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)}
{فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} لمَّا ذُكر شأنُ القرآن الكريم في بيانه للشَّرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتِّبةِ عليها من الثَّوابِ والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالِها وأُشير إلى كونِه في غاية ما يكونُ من التَّوضيحِ والإظهار حيثُ مُثِّل بما فُصِّل من نور المشكاة، وأُشير إلى أنَّ ذلك النُّورَ مع كونِه في أقصى مراتبِ الظُّهور إنَّما يهتدي بهداه من تعلَّقتْ مشيئةُ الله تعالى بهدايته دُونَ مَن عداه عقَّب ذلك بذكر الفريقينِ وتصوير بعض أعمالهم المُعربةِ عن كيفيَّةِ حالهم في الاهتداءِ وعدمه. والمرادُ بالبيوتِ المساجدُ كلِّها حسبما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما وقيل: هي المساجدُ التي بناها نبيٌّ من أنبياء الله تعالى: الكعبةُ التي بناها إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلامُ وبيتُ المقدسِ الذي بناه داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ ومسجدُ المدينةِ ومسجدُ قُباءَ اللذانِ بناهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بالإذنِ في رفعها الأمرُ ببنائها رفيعةً لا كسائر البيوتِ وقيل: هو الأمر برفعِ مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكونُ عطفُ الذِّكرِ عليه من قبيل العطفِ التفسيريِّ. وأيًّا ما كان ففي التَّعبير عنه بالإذن تلويحٌ بأنَّ اللائقَ بحال المأمور أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناوياً لتحقيقِه كأنَّه مستأذنٌ في ذلك فيقع الأمرُ به موقعَ الإذن فيه. والمرادُ بذكر اسمه تعالى ما يعمُّ جميعَ أذكارِه تعالى. وكلمةُ في متعلِّقةٌ بقوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ} وقولُه تعالى: {فِيهَا} تكريرٌ لها للتَّأكيد والتَّذكيرِ لما بينهما من الفاصلةِ وللإيذانِ بأنَّ التَّقديمَ للاهتمام لا لقصر التَّسبيحِ على الوقوع في البيوت فقط. وأصلُ التَّسبيحِ التَّنزيهُ والتَّقديسُ، يُستعملُ باللامِ وبدونِها أيضاً كما في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى} قالوا: أُريد به الصَّلواتُ المفروضةُ كما يُنبىء عنه تعيينُ الأوقاتِ بقوله تعالى: {بالغدو والأصال} أي بالغَدَواتِ والعَشَايا على أنَّ الغُدوَّ إمَّا جمعُ غداةٍ كقُنيَ في جمع قَنَاةٍ كما قيل. أو مصدرٌ أُطلق على الوقت حسبما يُشعر به اقترانُه بالآصالِ وهو جمع أَصيلٍ وهو العَشِيُّ وهو شامل لأوقاتِ ما عدا صلاةَ الفجرِ المؤدَّاةَ بالغداةِ، ويجوزُ أنْ يرادَ به نفسُ التَّنزيه على أنَّه عبارة عمَّا يقعُ منه في أثناء الصَّلواتِ وأوقاتها لزيادةِ شرفِه وإنافتِه على سائر أفراده أو عمَّا يقعُ في جميع الأوقاتِ. وإفرادُ طَرَفي النَّهارِ بالذِّكرِ لقيامِهما مقامَ كلِّها لكونِهما العمدةَ فيها بكونِهما مشهورينَ وكونِهما أشهرَ ما يقعُ فيه المباشرةُ للأعمال والاشتغالُ بالأشغالِ. وقرئ: {والإيصالِ} وهو الدُّخولُ في الأصيلِ.